كان يوما ممطرا في طرابلس, جلست اراقب قوارب الصيد الصغيرة المحملة بالشباك وهي تخط اثرا في بحر خلت صفحة مياهه من الامواج, معى فنجان قهوتي كعادتي كل صباح, لا أصوات تسمع إلا من ضجيج خافت لمحركات القوارب.
كنت قد وصلت طرابلس قبل يومين في دورة تدريبية وكانت اول رحلة لي بتكليف من المصرف, فجأة قطع الصمت رنين الهاتف الغير متوقع, فهاتفي والحمد لله لا يرن لا ليلا ولا نهارا الا فيما ندر, توقعته اتصال من البيت , استغربت حين لم اعرف الرقم فاجبت, على الطرف الاخر كان احدهم من إدارة المصرف, شاب عرفته لمدة قصيرة قبل ان يتم نقله للعمل في ادارة مستحدثة في المصرف كان هو المتصل, قال لي ان هناك ورشة عمل للمصارف ولم يتمكن الموظف المكلف من الحضور, ولذا فهو يريد من اي احد موجود في طرابلس ان يحضر بدلا عنه حتى لا يسجل على المصرف تغيبه عن الاجتماع.
اجبته بان على ابلاغ ادارتي اولا وهذا ما حصل,وبعد دقائق وصل السائق فابلغته بتغير الوجهة وانطلقت السيارة في بداية زحام طرابلس الصباحي لتصل الى المكان المحدد لورشة العمل
كنت مازلت موظفا جديدا في المصرف لم يمضي على عملي ستة اشهر, قضيت منها ثلاثا في احد الفروع موظفا وثلاثا في قسم الحاسب الالي,لم يتوقع مني احد الكثير فقط الحضور والجلوس بصمت
دخلت المبنى حاملا حقيبتي ومعطفي مطويا على يدي , وبعد السؤال وجدت طريقي الى مكان ورشة العمل, دخلت فلم اجد احداً, فقررت الذهاب الى المقهى الموجود بالمبنى لا حصل على جرعة اضافية من القهوة, بعد ذلك رجعت للقاعة فوجدت ورشة العمل بصدد البدء
كانت القاعة كما تتوقع من مبنى حكومي ليبي, طاولات ومقاعد من نوعية متوسطة الجودة مرتبة على شكل مستطيل ناقص الضلع, المبنى نفسه كان كما يبدوا معدا ليكون مدرسة او معهدا ظاهر عليه الاهمال في الصيانة وتفرعت في جدران القاعة التوصيلات الكهربائية العشوائية بلا نظام,ومضاءة بمصابيح نيون بعضها يعمل وبعضا يرتعش كانه يطلب الراحة بعد انتهاء عمره الافتراضي, وصلات الشبكة المحلية تمتد على الارضية يطاءها المارون ويتعثرون بها احيانا , وسجادة غطاها الغبار والتصق عيلها بقايا من علكة وفيها اثار وعلامات لحروق بالسجائر
كانت هناك طاولة وحيدة مقابلة لباقي الطاولات,عليها جلس شخص بدا على ملامحه التكشير والغضب, كانه قد جر غصباً عنه من فراشه ووضع على ذلك الكرسي محدقا بالاخرين بنظرات حادة
بمجرد ان دخلت من الباب حتى توجهت بعض الانظار نحوي, متوقعين اني قد اكون عامل المقهى قادما لاوزع عليهم المشروبات, فقد كنت الغريب في تلك القاعة والوحيد اللذي تقل سنوات عمره عن الاربعين, فكان هذا الاستنتاج اللي توقعوه, توجهت الى المقعد الذي كنت قد تركت عليه معطفي وسحبته وجلست, نظر الي الجالس على الطاولة المقابلة بغضب وسأل عمن اكون وعمن سبب تواجدي, عرفت عن نفسي باختصار واشرت الى معطفي الموجود على الكرسي ليعرف اني كنت قد سبقت بالمجئ, فتمتم بكلمات لم اتبينها وان كانت ملامح وجهه تنم عن الاستهزاء وبعض من تكشيره الذي لم يفارق وجهه فيما كان يسجل شيئا في دفتر مطروح امامه, تجاهلت وجوده وتابعت النظر في القاعة والجالسين فيها, كان في منصف القاعة شخص اشيب الشعر, طويل نحيل وشاحب اللون, فيه بعض من الشبه بالممثل الكوميدي ستيف مارتن, كان منحنيا على طاولة صغيرة يركب جهازا لاسقاط الصورة بجهاز محمول,وتتراكم اوراقه بغير نظام على الطاولة, كان واضاحا انه نصراني(اجنبي).
بعد لحظات دخل احدهم الى القاعة لتستقبله نظرة غاضبة من صديقنا على الطاولة الوسطى فسأله عن سبب تاخره وفيما حاول الوافد الجديد الاعتذار فاجانا حدة جواب الجالس على الطاولة وطرده للوافد الجديد الذي خرج مكسور الخاطر يجر الخيبة باذياله.
كان الموقف يبدوا غير طبيعيا فاستنتجت ان هذا المدير يحاول ان يعطي الانطباع عن نفسه بانه الذكر المسيطر امام الجميع(تماما كما في الحيوانات البرية اكرمكم الله), وتوقعت سابق معرفة بين الشخصين وهذا ما اتضح لاحقا
بعد قليل اتم النصراني عمله على جهازه وقام بتوزيع كتيبات مطبوعة على الحاضرين, ثم وقف في منتصف القاعة معرفا عن نفسه, كان اسمه باري(اطلقت عليه اسم عبد الباري فيما بعد) وهو استرالي يعمل في شركة استشارية تم التعاقد معها للمساعدة في تنفيذ مشروع ما
وبعد التعريف عن نفسه طلب اطفاء الاضواء وشغل جهاز الاسقاط على الجدار خلف صاحبنا ذي المزاج الحاد, وقال له بانه من الافضل ان يغير مكان جلوسه ليتمكن من المتابعة, ففعل على مضض واختار ابعد كرسي عن الحاضرين وكانه مصر على تمييز نفسه عنهم.
بداء عبد الباري بالحديث بلهجة استرالية قوية لا اجد ما اشابهها به الا لهجة كروكوديل دندي, كا الموضوع متعلقا بالعمليات المصرفية الالكترونية,وبداءت المصطلحات والاختصارات بالتهاطل, فيما كان الحاضرون ينظرون الى بعضهم ويتهامسون ويحاولون ان يفهموا كلمة مما يقال بدون جدوى.
انا كنت مصرا على الصمت والاستماع, في الواقع هذا النصراني لم يقل الكثير مما يمكنني اضافته لمعلوماتي, كان كلامه كله عبارة عن شرح مبسط لكيفية عمل الات الصراف الالي والات نقاط البيع وانظمة ادارة البطاقات وباقي البرمجيات المصرفية ,كل هذا ممزوج بمواضيع مختلفة في تقنية المعلومات, وقصص ونوادر وحكايات وسرد تاريخي لتطور هذا الجانب من العمل المصرفي, في الحقية لم اكن خبيرا في هذا المجال ولم اتعمد دراسته او متابعته, فقط كنت ملما بجانب كبير منه, كنت كبطل فلم من يريد ان يربح المليون الهندي, حيث ادت حياة مليئة بالمصادفات والاحداث لالمامه باجابات جميع الأسئلة, كنت ادون ملاحظاتي في دفتر وزع علينا ,بعد فترة لاحظ عبد الباري اني كنت الوحيد الذي يبتسم للطرائف التي يذكرها عمدا لتلطيف جو ورشة العمل, فبداء بتوجيه حديث لي حتى اصبح الموقف واضحا, بعد ساعتين استجمع احد الحاضرين شجاعته ووقف ليفت الانظار الى نفسه موجها سؤالا بانجليزية بسيطة وقد غلب عليه الارتباك, في الواقع كان السؤال غير متعلق بالموضوع المطروح لا من قريب ولا من بعيد, كان الموقف محرجا فتدخلت وكاني اقوم بدور مترجم لاشرح السؤال والويه ليبدوا متعلقا بالموضوع, انا لا اتحمل موقفا يكون فيه شخص عرضة للاحراج وهذا ما دفعني للحديث, عند هذه النقط بداء عبد الباري في مناقشتي مباشرة, حاول ان يحدد مدى فهمي فاجبته باختصار فعاد الى شرائحه وحديثه
عند الساعة الثالثة وقف صاحبنا المتجهم وقال بانه حان موعد الغداء وان علينا التوجه للمقهى للغداء,في المفهى كانت هناك وجبات جاهزة قد جلبت من مطعم وجلس الجميع على طاولات للغداء وبدا واضحا انهم كانوا قد حضروا في مجموعات من فردين لكل مصرف, تصادف الغداء مع موعد خروج العاملين في المبنى فشعرت ببعض الاحراج من روئيتهم لي اتناوال الغداء وحيدا فانا من بيئة بدوية ومن طباعنا الدعوة على الطعام , وفي نفس الوقت كنت اعرف كم هو هذا السلوك مستغرب في طرابلس ,فكنت كلم لمحت احدهم مارا ينظر الى طاولتي اشرت اليه بيدي نحو الطعام , بعضهم فهمها وبعضهم لم يفهم ولكن استمريت بفعلها على اي حال, بعد قليل جاء عبد الباري وانظم الى طاولتي هو ومساعد له افريقي من كينيا وجلس يتحدث في مواضيع عابرة عن الطقس والحياة في طرابلس, والمواصلات وجاء المدير المتجهم يلحقهم حاملا غداءه بعد ان وقف من على طاولة كان يجلس عليها هو والشخص المطرود من القاعة صباحا(اتضح لاحقا انهما موظفان بنفس المصرف وان المتجهم العبوس لم يجد ضحية يطلق عليها غضبه الا زميله ليفرض احترامه على الاخرين فيا سبحان الله), بعد الغداء بداء عبد الباري في سؤالى عن مصدر معرفتي بهذا المجال, فعزيتها كلها الى الدراسة الرسمية اختصارا , نظر الى قليلا والتفت الى المتجهم قائلا عندما جئت الى ليبيا لم اتوقع ان اجد اشخاصا مثل هذا, فبداء المتجهم بالثناء على الخبرات المحلية والنظام التعليمي الليبي.
بعد ذلك عدنا الى القاعة واستمرت ورشة العمل الى ساعة متاخرة نسبيا
في اليوم التالي كانت نفس الوجوه جالسة في القاعة وكنت هذه المرة متاخرا عن الحضور ولكن النظرة اختلفت ولم يعلق المتجهم والذي بدا اليوم اقل عبوسا على تأخري وتكرر ما حصل في اليوم الاول , وبنهاية اليوم وقف معظم الحاضرين طالبين اعفأهم من الحضور مستقبلا فيما طلب بعضهم دورات تدريبية للغة الانكليزية, والحق لا الومهم فهم ناس قضوا اعمارهم في مطاردة الصكوك على طاولات مغبرة وسط ضجيج العملاء الساخطين.
بعد اسبوع وصلت رسالة الى المصرف تطالب بالحاقي رسميا بالمشروع وكنت الاول من مصرفي ومن المنطقة الشرقية بليبيا, وكان في الرسالة الكثير من الثناء من قبل المتجهم العبوس.
هذه بداية مغامرتي في طرابلس والتي كنت قدت افتحت هذه المدونة لسرد تفاصيلها وتفاصيل حياتي في عاصمة بدات فيها ملامح التغير السريع, كنت قد كتبتها سابقا في مدونتي ,ولكن لانها جذبت بعض الاهتمام الغير مرغوب به, ولتعرضي لمضايقة بشانها فاني قد حذفتها وحذفت المدونة بكاملها قبل سنوات.